كركوك داخل أنبوب اختبار

الشرق الاوسط 22 January 2004

يمر العراق، حالياً بمنعطف سياسي تاريخي لم يشهده منذ قرن، وربما ستحدد أحداث عام 2004 معالم الهيكل السياسي العراقي للقرن القادم وربما لما بعده.

في أوائل القرن الماضي، تمكن الملك فيصل الأول واعوانه من اقناع المستعمرين البريطانيين بضم منطقة كردستان الجنوبية ـ ذات الأغلبية السنية ـ الى وادي الرافدين ـ ذي الأغلبية الشيعية ـ حتى يتمكن من ترجيح كفة السنة العرب في الدولة العراقية حديثة التكوين. أما قادة الكرد وشيعة العراق، فقد وقفوا مكتوفي الايدي، انذاك واخفقوا في ممارسة دورهم، واللعب حسب قوانين الساعة، وراهنوا على أوراق خاسرة. هذا ما سمح لسنة العراق بالانفراد بالسلطة على مر العقود وحتى سقوط نظام صدام.

وفي اوائل القرن الحالي تغيرت قوانين اللعبة: «قلبت حرب امريكا على الارهاب الموازين رأساً على عقب. وبعد انهيار نظام صدام، بات الكرد وشيعة العراق أكثر اللاعبين بروزاً ، وبدوا وكأنهم يكسبون الجولة ـ في حين لعب سنة العراق اوراقاً خاسرة منذ رحيل صدام عن الساحة حيث باتوا بلا راع، ولم يظهر بينهم بديل مقبول. ويحاول بعض رجال الدين الذين تربوا في ظل النظام السابق الأخذ بزمام القيادة تحت شعارات غير واضحة تظهرهم غير قادرين على الالمام بقوانين اللعبة الجديدة.

أما رجال الدين الشيعة، خصوصا الذين تشردوا منهم خلال فترة حكم صدام وتراكمت لديهم الخبرة، فتصرفوا بحكمة، وظهروا كرجال دولة وقادة تعلموا من اخطاء الماضي ومن التجربة الايرانية الفاشلة، وتجلى ذلك في تكاتفهم مع العلمانيين، مسجلين سبقاً ميدانياً في رسم التحالفات واضحوا في وضع من يحدد الاجندة السياسية في البلاد.

أما قادة الكرد، الذين بدوا في الماضي كمن لا يستفيد من تجاربه المأساوية فظهروا فجأة متفقين كقوة واحدة، وكانوا سباقين للتنبؤ بالمتغيرات، وتمكنوا من اقناع الحلفاء بأنهم عراقيون وحدويون، وان وجود كيانهم الاداري لا يشكل خطراً على وحدة البلد، أو أمن المنطقة أو مصالح الغرب اجمالاً. هذا خلاف ما كان يخطط له صدام، الذي استخدم هذا الخطر الوهمي كحجة لكسب الدعم الغربي والشرقي لنظامه. وكثيراً ما كنت اتساءل فيما اذا كانت الادارتان الامريكية والبريطانية غافلتين عن هذه الحقيقة، ومما زاد قناعتي في هذا الشك هو استمرار الادارتين في دعم صدام حتى في ايام حلبجة واثناء عملية «الانفال» التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين الاكراد. وزاد من قناعتي أكثر حين سنحت لي الفرصة بسؤال ماركريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، في نيسان 1991، حين التقيتها على رأس وفد كردي طالباً منها التدخل لدى جورج بوش (الأب) وجون ميجر (رئيس الوزراء البريطاني حينها) لانقاذ مليوني كردي محاصر على الحدود الايرانية والتركية، بعد فشل الانتفاضة الشعبية في العراق. حاولت تطمينها بأن ما اطلبه هو انساني بحت ولا ابعاد سياسية له. سألتني تاتشر عن حقيقة نوايا ومطالب الساسة الأكراد. وقلت لها بأن الأكراد واقعيون في مطالبهم، ولولا قساوة الأنظمة المركزية، لكان واضحاً للعيان بأن «ولاء الكردي للعراق لا يختلف عن ولاء الاسكتلندي لبريطانيا». ضحكت ثاتشر لهذه المقارنة، وقالت «لم أفكر بمثل هذه المقارنة وهذا شيء جيد». أما انا فكنت مندهشا لفكرتها الناقصة عن الكرد والشيعة في العراق. ولحسن حظنا فقد اقتنعت ثاتشر، وبادرت على الفور بالاتصال بجورج بوش الذي كان يقضي عطلة عيد الفصح في ممارسة هوايته في صيد السمك، في حين كان جون ميجر منشغلاً بمشاهدة مباريات فريقه المفضل «تشلسي». وأدى تدخل ثاتشر إلى انشاء المنطقة الآمنة في شمال العراق، واعادة الكرد الى ديارهم واقامة البرلمان المنتخب والحكومة الكردية الأولى في العراق في 1992. والسؤال هنا: هل من الممكن لقادة الكرد ان يبرهنوا ما كنا ادعيناه امام ثاتشر والذي كان يخفيه صدام؟

وهل يمكن للكرد ان يقيموا اقليماً كردياً ديمقراطياً يقتدى به، من حيث تعايش الاقليات بسلام في سائر العراق والمنطقة؟ وهل يمكن للكرد ان يقودوا ما يمكن ان يؤدي الى ان يصبح العراق ديمقراطياً فيدرالياً مؤسساتياً للمستقبل؟

في آيار/ مايو 2003 كنت بصحبة هوشيار زيباري (وزير الخارجية العراقي الحالي) في فندق قصر السندباد في بغداد حيث كنا نسترجع ذكريات ايام حلبجة والأيام التي قضيناها سوية في التظاهر أمام السفارة العراقية واللوبي في ممرات المؤسسات الديمقراطية البريطانية لفضح نظام صدام. حينها قال لي زيباري: «من كان يصدق ان تتغير الاحداث بهذه السرعة، وان نتلاقى في بغداد على انقاض الدكتاتور الذي كان لا يقهر». فطرحت عليه تساؤلاتي متمنياً ان يكون الزعماء الكرد اهلاً لثقة كل العراقيين.

وعبرت عن قلقي من امكانية الحزبين الكرديين (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرازاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني) على تحقيق التعاون في كردستان وفي بغداد. كان زيباري متفائلاً، لكنه تفهم قلقي النابع من التاريخ الحديث. فالتعايش الديمقراطي في التجربة الكردية لم يدم إلا سنتين ونيفاً (1992 ـ 1994) حتى اشتد التناحر العدائي بينهما وصار فريسة سهلة لصدام ودول الجوار. وما لبث ان اندلع الاقتتال الاخوي ليضع التجربة الديمقراطية على حافة الفشل. كانت نتيجة القتال ان راح آلاف الأكراد ضحايا وتشرد مئات الألوف، وعانت الاقليات الكردستانية بدورها من جراء ذلك. وفي النهاية انقسم الاقليم الكردستاني الى شطرين، وانفرد كل حزب بإدارة احد الشطرين الى ان اعتذر الزعيمان الكرديان علناً أمام البرلمان الكردي في اربيل في العام المنصرم.

تأسيساً على ما سبق، تقف التجربة الكردية الآن أمام منعطفات حاسمة، يقع في مقدمها توحيد الادارتين وقيام مجتمع ديمقراطي فدرالي، بالرغم من قناعتي، حتى وقت قريب بعدم تفضيل هذا التوحيد خوفاً على اعادة كرة المناصفة والتناحر الداخلي في ساحة اللعب مجدداً. لكن آن الاوان لتأسيس نظام تعددي في الاقليم الفدرالي حتى يرى العالم بأن الديمقراطية ليست مخلوقاً غريباً مفروضاً على العراقيين أو المجتمع الاسلامي. وان وحدة الادارتين الكرديتين تصب في مصلحة العراق العليا، وعلى مجلس الحكم ان يطالب بها. فوحدة الخطاب الكردي كانت كافية لابعاد شبح تدخل الجيش التركي في العراق ككل ووحدة الاكراد ستبعد شبح الحرب الاهلية في كركوك والمدن الاخرى ذات التعقيدات الديموغرافية. وبوسعي القول ان كركوك الآن تشكل انبوب الاختبار الديمقراطي. ان تهيئة المناخ الديمقراطي في هذه المدينة كفيل بكسب غالبية المجتمعات فيها، وهذا يستدعي ايجاد آليات ومؤسسات تضمن الحقوق الثقافية والقومية للتركمان والعرب والمسيحيين فيها. وهي افضل ضمان لاسكات المتطرفين بينهم، ولمنع التدخل الاجنبي، عندئذ يرى التركماني بأن العيش تحت مظلة الادارة الفدرالية الكردية حالة طبيعية ومفضلة وليس العكس.

لذلك على الكرد ترتيب البيت الكردستاني بالغ التعقيد. وان يقدموا الأمثلة كما يتمنونها للآخرين حتى يستحقوا قيادة قطار الديمقراطية في العراق كله.